#مقالاتي

عسل التربية المسموم

عسل التربية المسموم

يوسف المحميد – رئيس قسم اللغة العربية في أكاديمية الموهبة المشتركة

في قاعةٍ احتشدتْ فيها مظاهر الجمال النَّامَّة عن ذائقة رفيعة لا تجدها عادة في وزارة التربية، إلا حين يمنُّ عليك الله بنعمة زيارة مدرسة للبنات، جلستُ مُشتَّت الذهن بين جمال التصميم وغرض الزيارة وفناجين القهوة التي ما إن تُرفَع حتى يوضع مكانها فنجان شاي، لكن برقًا لمع في سماء شتاتي أعادني إلى شيء من التركيز لا في غرض الزيارة ولا في جمال القاعة، بل في عبارة كُتِبَتْ على أعلامٍ صغيرةٍ غُرِسَتْ في آنيةٍ صغيرةٍ أنيقةٍ موضوعةٍ على جميع الطاولات:-

الطريقة التي تُقدَّمُ فيها المعلومة أهم من المعلومة نفسها

                لم تكن عيني تقرأ في العبارة كلمات لغوية كُتِبَتْ بحبر أسود، بل كانت ترى مأساة التعليم بكل أبعادها المشؤومة مُخْتَزَلَةً في تلك الكلمات، ولن أكون متطرفًا -كعادتي- حين أقول : إن هذه العبارة سبب رئيس لأمراض التعليم وعلل العقل واختلال الفهم !!

                العبارة -كما هو واضح- تدور حول “المعلومة” وتقلل من أهميتها مقابل أهمية “الطريقة” المستخدمة في إيصالها، بمعنى أن عمل المعلم والمعلمة ليس سوى إيصال المعلومة إلى عقل الطالب، فهو ناقلٌ مُسْتَأْمَنٌ لما يتضمنه المنهج من معلومات نُضِدَتْ في الكتاب المقرر، وما معيار التفاضل بين المعلمين سوى الطرائق والوسائل الموظَّفة لخدمة ذلك الهدف، كاستخدام ما يُسَمَّى “استراتيجيات التدريس” الحديثة، والاستفادة من الوسائل التكنولوجية الحديثة كالسبورة التي أصبحت أذكى من الطالب ومعلمه.

                ومحورية “طريقة الإيصال” لا تعني صدور تلك العبارة عن فكر تربوي حديث، فمحورية الإيصال في العبارة محل النقد فرعٌ عن محورية المعلومة، بمعنى أن عمل المعلم –بمقتضى العبارة- ما يزال يدور في فلك المعلومات التي قررها واضعو مناهج الوزارة، وفي هذا يتجلى وجه المأساة الكئيب، فمحورية “المعلومة” تنتمي إلى عهد سابق تجاوزته المدارس التربوية الحديثة، فقد جاءت “الخبرة” لتكون محور التعليم بدلًا من “المعلومة”، ولا يغرَّنَّكَ تسمية عصرنا الحالي بعصر “ثورة المعلومات”، فتظن أن للمعلومة دور المركز في العملية التربوية.

                إن في تسمية الثورة المعرفية التي نعيشها باسم “ثورة المعلومات” ظلمًا كبيرًا لثورة مجيدة، فهو كتسمية الثورة الفرنسية –على سبيل المثال-  بـ”بثورة الرعاع”، فالثورة لم تحدث نتيجة تراكم المعلومات الخارجة من المختبرات لتُرْسَل إلى أصقاع العالم في سرعة لم تخطر على بال أجدادنا، فالذي أشعل الثورة وما يزال يذكي نارها إنما هو ذلك التطور الهائل في مناهج البحث والكشف العلمي في العلوم الطبيعية والإنسانية، وهذا أشبه ما يكون بالثورة الصناعية التي قلَّصَتْ الجهد والوقت اللازمين للإنتاج، فاكتسحت منتجات آلات المصانع الأسواق، وخنقت أصحاب الصناعات اليدوية الذين يقضون أعمارهم بكاملها لإنتاج ما يعادل إنتاج مصنع واحد في يوم واحد، وهذا بالضبط ما حدث في ثورتنا المعرفية، فقد تطورت مناهج العلوم وطرق البحث في الظواهر الطبيعية والإنسانية والاجتماعية، حتى غدت تلك المناهج مصانع تُخْرِجُ لنا من المعلومات ما لا يمكن لأصحاب تلك المصانع استيعابه، فكيف بمن يستهلك منتجاتها المعرفية (المعلومات)؟!.

                إذن نستطيع وصف ما تدعو إليه عبارة : “الطريقة التي تُقدَّمُ فيها المعلومة أهم من المعلومة نفسها” ، بأنه دعوة للقيام بالأمر الخاطئ بطريقة أكثر صوابًا!! ، فمن الخطأ أن نجعل المعلومة محور العملية التعليمية، فإذا كان لابد من ذلك فمن الصواب أن نركز على طريقة نقل المعلومة،  لكن ما بُنِيَ على باطل فهو باطل، لذا فالعبارة بكاملها باطلة.

                إني أرى شبح هذه العبارة خلف معظم ما تبدعه عقول المعلمين من وسائل تقنية أو غير تقنية لشرح الدروس، ويمكن أن نعتبر مجمل جهودهم في هذا الميدان مُخْتَزَلًا في عمليات تنظيم المعلومات وتقسيمها، ثم إعادة عرضها بصورة أنيقة جذابة، وفي سبيل ذلك تُبْذَلُ جهودٌ جبارةٌ، وتُنْفَقُ أموالٌ طائِلَةٌ من دون طائل، فقيمة جهودهم كلها تذهب أدراج الرياح مع تسليم طلابهم أوراق الاختبار بعد إفراغ ما حفظوه من معلومات، ومن يُكْتَب لمعلوماته شيءٌ من البقاء، فإنها ستبقى كتحف قديمة يَعْرِضُهَا الطالب بعد تخرجه ليثبت أثر المعلم العميق في نفسه، ولا أدري ما عمق ذلك الأثر في عصرٍ تستطيع يدك الوصول إلى معلومات البشرية بأكملها من خلال هاتف يوضع في جيبِ البنطالِ أو في حقيبة اليد.

                ولتتضح الصورة أكثر فلنقارن بين عبارتين:

أ.  على المعلم التفكير في طريقة إيصال المعلومة إلى الطالب.

ب. على المعلم التفكير في طريقة إيصال الطالب إلى المعلومة.

العبارة (أ) تُحَتِّمُ على المعلم التفكير في وسائل عرض المعلومة بطريقة واضحة ومشوقة، ليتفاعل معها وجدان الطالب وعقله، حتى ترسخ في ذهنه فتكون جاهزة للتفريغ يوم الاختبار، أما العبارة (ب) فتُحَتِّمُ على المعلم التفكير في مهارات الوصول إلى المعلومات والأفكار، فيركز على تدريب الطلاب على مهارات التفكير والبحث التي توصلهم إلى المعلومات والأفكار.

ينتهي عمل المعلم في العبارة (أ) حين يسجل طلابه ملخص الدرس في دفاترهم، ويتفضل عليهم حين يراجع معهم معلومات الدروس السابقة ليتأكد من قدرتهم على تفريغها حين اللزوم، أما طرائق إيصال المعلومة فتتنوع بتنوع طرائق التدريس، وتعدد وسائل العرض التكنولوجية وغير التكنولوجية، لكن الوحدة وراء تلك الكثرة تتجلى في المنتج النهائي لـمُجمَل عملية التدريس، طلاب يحفظون معلوماتٍ في عقولٍ فقدت خصوبتها وقدرتها على توليد معارف جديدة.

أما في العبارة (ب) فينتهي عمل المعلم حين يتأكد من قدرة طلابه على توظيف المهارات والخبرات المكتسبة في إنتاج معارف جديدة، فالمعلم وفق منطق العبارة (ب) فنان يعلم طلابه كيف تُحَوَّلُ الحجارة الصماء إلى أعمال فنية عظيمة، وكيف تُعالج المعلومات (الخام) في عقولهم لتغدو أفكارًا إبداعية ملهمة.

 إن عبارة “الطريقة التي تُقدَّمُ فيها المعلومة أهم من المعلومة نفسها” ليست سوى اختزال دقيق لمصيبة تعليمنا الذي غدا مسرحية عَبَثِيَّةً هابطةً، تُنْفَقُ فيها أموالٌ طائلة لتزيين خشبة المسرح الخالي من الروح الفارغ من المعنى، كيلا يرى المشاهدون الوجه القبيح لحقيقة المؤلف والممثلين.

تعليقان

  1. فتحت جرحا كان مكتوما وكتابا كان مركونا

    لا أدري متى يأتي اليوم الذي أجد فيه الطالب شغفه بالتعلم أكبر من نيل الدرجات والتصدر على عرش التفوق ؟!

    وللأسف أقولها و أنا على مشارف التخرج من جامعة الكويت من كلية التربية ولا أدري هل نحن معلمون أم محفظون؟!

    أحسنت على المقالة أستاذي

    Liked by 1 person

  2. عزيزي الأستاذ والمعلم يوسف المحميد،
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

    أقدم لك جزيل الشكر على مقالك الرائع والذي كان كالعادة ثري بالنقاط المهمة.
    أحد تلك النقاط المهمة التي أود التعليق عليها هي موضوع المناهج التربوية\الدراسية وتطويرها.

    وهذا هو رأي شخص غير تربوي:

    أقول ذلك بسبب تولد حالة الاستياء المعتادة والمملة عند صاحب القرار ما أن يسمع بأي مطالبة لتطوير المناهج.
    فكالعادة ردة الفعل هنا ترتبط بالزعم بالتدخل السافر في أسلوب تربيتنا للنشء وفي شؤوننا الداخلية. لدرجة أصبح فيها تنقيح الدستور الكويتي أسهل من تنقيح مناهجنا وطرق تدريسها. كل ذلك في سبيل حماية النشء من الأفكار الغريبة علينا.
    فقد تأتي العبارة موضع تحليلك: “الطريقة التي تُقدَّمُ فيها المعلومة أهم من المعلومة نفسها” من باب تقنين وتنظيم الفوضى في المناهج. أو على كلامنا الشعبي: العوض ولا القطيعة.

    فعلا أمر مستغرب أننا نجد هكذا مناهج تدرس في هكذا عصر رقمي ” تستطيع يدك الوصول إلى معلومات البشرية بأكملها من خلال هاتف يوضع في جيبِ البنطالِ أو في حقيبة اليد.”

    في تقديري صعوبة اتخاذ القرار في حسم موضوع المناهج تكمن في خلل في البوصلة التربوية في تحديد المسار الصحيح للتعليم في هذا الوقت والزمان. تماما مثل الخلل في بوصلة التدين: فالمتدين عند غالبية الناس هو ذلك الشخص الذي يعامل المستحبات كالفرائض العبادية فهو من يكثر من الصلاة والصوم والحج وحضور مجالس الذكر،، بالرغم من أن الأساس في الإسلام هو المعاملة،،، أما العبادة فتأتي في مرحلة لاحقة ومكملة.

    فنجد بأنه ليس بالضروري أن ينعت المتفاني في عمله، أو من يميط الأذى عن الطريق، أو من يبتسم في وجه أخيه، أو من يكافح هدر الموارد بالمتدين.

    Liked by 1 person

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: