مختارات المحميد المختارات الشعرية

بلاغة الطفل

File 9-18-17, 11 00 10 AM

“بلاغة الطفل”

لا يملك الأطفال لغة كاللغة التي نملكها واضحة المعالم محكومة القواعد متنوعة الأصوات المرتبطة بكل الدلالات التي نحتاجها، لغتهم فيها حرفان فقط، البكاء والأنين، لكن هذين الحرفين قادران على ما لا تقدر عليه كل حروفنا التي نضحك على الأطفال لعدم امتلاكهم لها ، حرفان يُشكِّل بهما الطفل كلمات لغته السحرية ، ورغم بساطتها إلا أنها قادرة على اختراق حجب القلب ، لتطعنه بخنجر صوتيها فيسيل الحب منه، وهي غاية لغة الطفل، فالحب هو الحاجة الأولى عنده، ومنه تُشْتَق بقية الحاجات.

      وفي أبيات ابن درَّاج نشاهد وصفاً لتلك اللغة جاء به في معرض وصفه مشهد وداع عائلته حين سافر للقاء المنصور بن أبي عامر الحاكم الحقيقي للأندلس في عصر خلافة المؤيد لدين الله الأموي. 

      نقرأ في ذلك المشهد خروج زوجته في يوم الوداع وهي تحاول ثنيه عن السفر وتقسم عليه بعهود الحب أن يرحمها من ألم غربته، وأثناء ذلك يعلو صياح ابنه الرضيع ليعيش الأب حيرته الكبرى، وتتقاسمه قوة الحب وقوة المسؤولية، فتحثه الأولى على البقاء، وتدفعه الثانية للرحيل، إلى أن تغلبت الثانية على الأولى، وما كان لها ذلك لولا الفقر الذي يهدد حياة الأسر، فيعصي الحب من أجل دفع الفقر، ويُسْلم نفسه لأهوال الطريق ليدفع عن نفسه الذل.

      قد تكون القصة التي أوردها ابن دراج متخيلة، لكننا اليوم نراها تتكرر يومياً مع كل مأساة يعيشها لاجئ يبحث عن الحياة الكريمة بين أنياب الموت.

وَلَـمَّا تَــدَانَـتْ لِلْــوَدَاعِ وَقَــدْ هَـــفَا(١)

                             بِصَـــبْــرِيَ مِــنْــهَا أَنَّــــةٌ وَزَفِــيــرُ

تُـنَاشِـدُنِـي عَـهْـدَ المَـوَدَّةِ وَالهَــوَى

                             وَفِي الـمَهْدِ مَبْغُـومُ النِّـدَاءِ صَغِيرُ(٢)

عَـيِــيٌّ بِمَـرْجُوعِ الخِطَابِ ، وَلَفْظُهُ

                             بِــمَــوْقِــعِ أَهْــوَاءِ النُّـفُـوسِ خَبِيرُ(٣)

تَــبَـــوَّأَ مَــمْــنُوعَ القُلُوبِ وَمُهِّـدَتْ

                             لَـــــــهُ أَذْرُعٌ مَـحْـفُــوفَــةٌ وَنُــحُــورُ

فَــكُـــلُّ مُــفَــدَّاةِ التَّـــرَائِبِ مُــرْضِعٌ

                             وَكُـــــلُّ مُــحَــيَّاةِ المَحَاسِــنِ ظِــيــرُ(٤)

عَصَيْتُ شَفِيعَ النَّفْسِ فِيهِ وَقَادَنِي

                             رَوَاحٌ لِـتَـدْآبِ السُّـــرَى وَبُـــــكُــــورُ(٥)

وَطَارَ جَنَاحُ الشَّوْقِ بِي وَهَفَتْ بِهَا

                             جَــوَانِــحُ مِـــنْ ذُعْــرِ الفِــرَاقِ تَطِيرُ

لأبي عمر أحمد بن دراج الأندلسي القسطلي

——————————————————————————————–

(١) هفا : ذهب ، أنةُ الزوجة أذهبت صبره.
(٢) البغام صوت الظبية حين تدعو ولدها وهو صوت يشبه الأنين.
(٣) موقع أهواء النفوس : كناية عن القلب
(٤) ظير: مخففة عن “ظِئْر” وهي المرأة التي تعطف على ولد لم تنجبه فترضعه وتعتني به.
(٥) شفيع النفس كناية عن عاطفته التي تحثه على المكوث.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s

%d مدونون معجبون بهذه: